القائمة الرئيسية

الصفحات

حرية الجسد كشكل من أشكال الاحتجاج

 

      

من الاحتجاج بالخطاب الى الاحتجاج بالجسد


 

1.     الاحتجاج بالشارع العام الحضري، بناء مقاومة للتقاليد

   الاحتجاج في ابسط مفاهيمه هو الاعتراض على امر ما، بالرغم من كون هذا الاعتراض عبارة عن رفض او مطالبة او غير ذلك.

لا غر أن الجسد كان وسيبقى حاضرا في الحركات الاجتماعية والحركات السياسية التي وصمت التاريخ الإنساني "فالثورة من الأفعال الرئيسية المحركة للتاريخ، فهي لا تتوقف ابدا، وتحمل في داخلها ما يبشر بالمستقبل دائما، بل تلعن بحضورها عن تغير يطال الانسان والأمم والتاريخ كلما انفجرت وأذنت بالتغيير"[1].

ومنه فلا بد وان تناط آليات الاحتجاج وأشكال الثورة الى التغيير والتحول، مادام ان الظاهرة الإنسانية والاجتماعية دائمة التغير والدينامية، الشيء الذي يجعلنا نتساءل حول الأشكال الجديدة للاحتجاج. وغالبا ما تبرز اشكال الاحتجاج في المدن والمجال الحضري، لكون هذا الأخير أكثر احتواء للأفراد، الى جانب انه يضم مجموعة من المؤسسات السياسية والأمنية ومؤسسات المجتمع المدني، ليصبح بذلك الشارع العام مجالا خصبا لظهور هذه الأشكال من الاحتجاجات.

1.2          الاحتجاج بالخطاب

     ان الخطاب لا طالما كان يلعب دورا جوهريا في الاحتجاج وفي الدفاع والرفض او المطالبة بالحقوق، اذ ان الخطاب سواء الشفوي منه او المكتوب يعتبر آلية لا غنى عنها في الدفاع والمطالبة  بالتغيير او التعبير عن الرفض.

ان الاحتجاج في شكله العادي يفرض نوعا من الحشد والتعبئة على مستوى الجماهير والمحتجين لكي ينجح فعل الاحتجاج. وقد كانت الشعارات والهتافات وسيلة تلك الجموع لإعلان احتجاجها والتأثير في غيرها ممن يخشى بطش الحكام لو اظهار مقاومته واحتجاجه[2]، ولكي تكون هناك تعبئة واسعة لا بد للخطاب الاحتجاج ان يكوم مبنيا على أسس سيكولوجية واجتماعية تعبر عن الواقع التي تعيشها الفئة المحتجة وتعبر عن رفضها او مطالبها.

وحتى يكون خطاب الاحتجاج مؤثرا وناجعا في اقناع تلك الجموع غير الواعية بآلية الدفاع عن حقوقها، كان لا بد من اعتماد الخطاب على أفعال الكلام لما لها من وظائف ذلت صلة بقصد الباث/المتكلم[3]، ويتجلى دور المخاطب او الخطاب بشكل عام في دفع اكبر عدد ممكن الى التضامن والتعبئة كما انه يشكل قوة تأثير في الطرف المقابل (رئيس، حكومة، نظام...).

ويجدر الإشارة الى ان كل حركة احتجاجية تشمل مجموعة من المفاهيم والشعارات التي تستخدمها، ممثلة بذلك الوضع الاجتماعي للفئة المحتجة او مطالبها.

1.3          الاحتجاج بالجسد

 الجسد لا بد وان يحضر في جميع اشكال الاحتجاج والحركات الاجتماعية، فوجود الفرد يعني وجود جسد الذي يعتبر الصورة  الخارجية له.

كما انه وبسبب التغيرات التي طرأت على المجتمعات وبفعل ظاهرة العولمة برزت مجموعة من أشكال الاحتجاج، من قبيل: الاحتجاج بالجسد، الاحتجاج بالفن، الاحتجاج بالإضراب عن الطعام، الاحتجاج عبر وسائط الاعلام الجديدة...، فالجسد في نظر الكثير من الأفراد هو ملك خاص للفرد له كامل الحرية في القيام فيه بكل تغيير، لهذا كثرت في السنوات الأخيرة بعض حالات من احتجاجات الجسدي (هناك مجموعة من الفيديوهات التي تعرض بعض الأفراد يضرمون النار في انفسهم معبرين بذلك عن رفضهم لقانون معين او لتعرضهم..).

ويؤكد الباحث في قضايا الجسد، هشام العلوي، أن الجسد يمثل حقلا تتفاعل فيه السلطة والسلطة المضادة، معطيا المثال بفرنسا التي حاربت "البرقع" واللباس الأفغاني في المكان العام لأنه لا يقدم صورة عن الجسد الذي يترجم قيم الجمهورية، وبالحركات الاحتجاجية خلال الثورة الفرنسية في نهاية القرن 18 التي أطلق عليها اسم "بدون سراويل"، المجسدة من المنظمات العالمية المعروفة بإظهار الأجزاء الحساسة من أجساد أعضاءها كخطوة احتجاجية، توجد منظمة بيتا للرفق بالحيوان، المعروفة بشعار: "أفضل أن أكون عاريا على أن أرتدي فَرْوا"، وكما هو واضح من الشعار، فهي تنادي بالتخلي عن أكل اللحوم والاعتماد فقط على الطعام النباتي، إضافة لنبذها كل أنواع الرياضات التي يُستغل فيها الحيوان، ومن بينها رياضة مصارعي الثيران التي تحتج عليها المنظمة سنويا، بإقامة "سباق العرايا"، الذي يركض فيه المتعاطفون مع الثيران كما ولدتهم أمهاتهم، في محاولة للضغط على الحكومة الاسبانية من أجل إيقاف هذه الرياضة القاتلة للثيران.لروح الثورة الرافضة للتقليد والمحافظة ونمط العيش الأرستقراطي.

2.     الجسد البيولوجي أم اجتماعي

    اهتمت الفلسفة منذ عصور بالإنسان ككائن اجتماعي وكان اهتمامها بالإنسان يتمثل في كونه كائن يختلف عن الكائنات الأخرى بالعقل والتفكير، مهملة بذلك جسد الانسان ودوره في التأثير على شخصية الأفراد وميولاتهم ورغباتهم. وعلى دربها ذهب علم الاجتماع الكلاسيكي ووقع في الزلل نفسه، الا ان علم الاجتماع الحديث وبعد ظهور عدة نظريات ودراسات سوف يعيد اصلاح الخطأ الذي وقع فيه وسوف يهتم بجسد الانسان ليس فقط كجسد بيولوجي يحمل الذات الإنسانية ولكن كجسد يؤثر بالمجتمع ويتأثر به. فأصبح بذلك الجسد مشروعا لعلم الاجتماع الرياضي وفي صلب اهتمامه.

1.2 الجسد البيولوجي

بالبحث في الدراسات التي اهتمت بالجسد نجد هذا الاهتمام يعود الى ما قبل ظهور الفلسفة، فقد سيطر الجانب الأسطوري حول رموز مفسرة لهذا الجسد الإنساني، "يرد هذا الاعتقاد أحيانا في الكتب التأسيسية مثل الأوبانيشاد الفيدية، اذ كانت عدة نصوص كونية ترى ان الانسان ولد من الأرض كما يرى "هيزيودوس" في تصوره لأنساب الآلهة (الروح) فهناك بالمقابل نصوص أخرى بالأخص "التيبت" تعلل نشأة الكون انطلاقا من جسد كائن كوني او بيضة شملت كل الكائنات فلن نندهش ان فكرة تشابه البنية العضوية للإنسان والبنية العضوية للعالم (المادة).

ان الاستخدام والتوظيف للبدن لم يكن يتجاوز مبدئيا المقابلة الانسية-الحيوانية في مراحل تطور الجنس البشري، لكن كانت أولية لضمان الحماية والبقاء، وتمهيدا لمرحلة أخرى مختلفة تماما، "ان الجسد الإنساني هو أداة قوية لتحديد النقاط المكانية الزمانية وغالبا ما يكون ركيزة تعليق الجهات الأصلية كما يحصل عند "الدوغون" في ارجاء العالم في تشكيل نماذج ثنائية متناسقة وغير متناسقة انطلاقا من فحص القطبيات الحية.[4]

ومع تطور البحث العلمي والوسائل التقنية والطبية سوف يصبح تحديد الجسد أكثر سهولة وسوف تتضح الرؤيا اكثر حول الغموض الذي كان يلف جسد الإنسان، بدل من الاعتماد على اعتقادات السابقين حول الجسد وعلاقته بالمقدس وما الى ذلك.

فالجسد عند رايش "هو جسد طاقوي يعبر بواسطة العضلات عن الحركة التي يجد عقبات تجاهها في العالم الخارجي"[5] فالجسد هو بيولوجي محض عبارة عن مجموعة من الأعضاء والأجهزة العضوية التي تعمل الى جانب بعضها البعض من اجل إعطاء صورة خارجية للإنسان.

ان جسمُ الإنسان هو بنيةٌ معقَّدة على درجة عالية من التنظيم، تتكوَّن من خلايا فريدة من نوعها تعمل معًا لإنجاز وظائف محدَّدة وضرورية للحفاظ على الحياة.[6] فالجسد الانساني قبل ان يكون جسد له عدة دلالات هو بلا ادنى شك جهاز عضوي بيولوجي يتكون من مجموع أعضاء كل عضو يؤدي عمل ووظيفة معينة ليحقق بذلك الجسد كماليته، وهو يتشارك نفس الخصائص مع الحيوان الا العقل، فالإنسان والحيوان هما نتاج عملية التوالد وهما يحملان تقريبا نفس التشكيلة البيولوجية.

ومع التطور الطبي اصبح بإمكان الانسان ان يعدل ويغير من جسده البيولوجي الذي كان من قبل اشبه بالمستحيل فضلا على انه كان محرما ذلك، فالآن ومع هذا التطور قد يغير الانسان من شكل وجهه ومن ترميم اسنانه، والى ابعد من هذا بإمكانه ان يعيش بأعضاء هي بالحقيقة ليس له، ومع التجارب الأخيرة التي اصبح يشهدها هذا العلم هناك عدة تجارب حول إمكانية تزويد الانسان بالأعضاء البيوليوجة للحيوان لتقوم بنفس الدور التي تقوم بها الأعضاء البيولوجية التي يملكها الانسان.

وهذه الرؤية العصرية للجسد والتي نجدها مجسمة في الحقل البيوطبي حيث تقدم لنا مفهوم خاصا للجسد- الشخص Corps/Personne  من خلال التشريع الفيزيولوجي وهذه المعرفة البيوطبية تلتقي بسوسيولوجيا دوركهايم التي ترجع الجسد الى ما هو بيولوجي.[7] فدوركهايم يعتبر الجسم الانسان عبارة عن مجموعة أعضاء تؤدي أدوار معينة من خلال الوظائف التي تقوم بها يحقق الانسان تكامله.

2.2 الجسد الاجتماعي

من المواضيع التي لقيت اهتماما من قبل علم الاجتماع تلك المتعلقة بجسد الانسان ليس بمثابته ذلك الاطار الذي يحتوي الذات الإنسانية، وانما بمثابته اطار يؤثر في حياة الشخص ويتأثر بها، هو في الأخير ليس مجرد أعضاء ميتة تقوم بوظائف بيولوجية وانما هو فاعل من خلاله يستطيع الفرد ان يتفاعل مع الجماعة.

في هذا الصدد يطرح ميشال برنارد إشكالية مزدوجة للجسد، يتجلى وجها هذه الإشكالية: في البعد الوجودي الذي يستدمج دينامية جسدية غرائزية وشهوانية، والبعد الثقافي الذي يتأثر خلاله الجسد بالمجتمع كرمز دال عليه، فقد خصص برنار هذين البعدين المرتبطين والمتكاملين باعتبارهما مهمان للخطاب الإنساني فسمى هذا البعد الأول بالبعد السيميائي، حيث يعرف الجسد باللغة كوسيلة راقية للتواصل، اما البعد الثاني فسماه البعد التعبيري والذي لا يرى في الجسد سوى ما يفسد اللغة اللفظية جذريا.[8]

اذن فالجسد الإنساني له اكثر من دلالة، وقد يتدخل المجتمع في تركيبته، وهنا نستحضر القول المشهور للباحثة والمفكرة سيمون بوفوار، حيث قالت " المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك"، في إشارة الى ان المجتمع يتدخل في تشكيل شخصية الافراد  ويفرض عليهم ادوارهم ووظائفهم عن طريق التنشئة الاجتماعية والتعليم، فالمجتمع بذلك يعيد انتاج نفسه ونفس الأفراد الموجودين به. كما ان شخصية الافراد وادوارهم تختلف من مجتمع الى آخر باختلاف الثقافات الموجودة به. ومنه يرى تيرنار ان مشكلة التحكم في الجسد وضبطه، هي مشكلة تواجه كل مجتمع فكل مجتمع تواجهه مهام اربع: إعادة انتاج افراده عبر الزمن والتحكم في أجساد أفراده عبر المكان، وكبح الجسد الداخلي (الرغبات) من خلال النظم وحضور الجسد الخارجي (المظهر) في الحيز الاجتماعي.[9]

وقد أكد مارسيل موس "على انه لدى كل الثقافات أساليب خاصة فيما يتعلق بالجسد حيث توفر للمنتمين اليها هويات، وتمنحهم طفولة ومراهقة وشيخوخة مقننة"[10]

أما Bourdieu ، فيشير من خلال مفهومه المركزي Habitus أن هيئة الجسد تترجم وتعبر عن هابيتس كل فرد؛ بمعنى أن التاجر والفلاح والموظف... ليس لهم نفس الهيئة الجسدية، "فخطاطة الجسد مزودة بنظرة مكتملة إلى العالم الاجتماعي، وبفلسفة مكتملة للشخص والجسد الخاص."[11]

فالمجتمع من خلال الثقافة التي تمثله يحدد نوع الهويات التي سوف يكتسبها الفرد المنتمي اليه، والذي يعمل كآلية لإعادة انتاج نفس الهويات ونفس القوالب من الأفراد  داخله. فالنظام الاجتماعي لكي يحدد نفسه ويضمن توازنه واستمراره يعمل على انتاج نفس النسق، والمظهر الخارجي للأفراد الصورة الأوضح التي تمثل نظام المجتمع وثقافته، وفي هذا الصدد تجادل الأنتربولوجية الأمريكية –ماري دوقلاس- بأن الجسد البشري هو الصورة الأكثر جاهزية للنظام الاجتماعي، وتقترح أفكارا عن الجسد البشري بشكل مباشر للأفكار الرائجة عن المجتمع، فضلا عن ذلك تنزع قطاعات بعينها في المجتمع الى تبني مقاربات للجسد تستجيب لأوضاعها الاجتماعية[12] "وعلى غرار ذلك فإن الجسد فوق كل ذلك كناية عن المجتمع ككل"[13]

يمثل كل فرد المجتمع الذي ينتمي اليه، بحث فقط من خلال المظهر الخارجي للأفراد يمكن التخمين الى أي مجتمع ينتمي اليه هذا الأخير، حيث ان المجتمع من خلال معاييره وقوانينه يتدخل في شخصية الافراد وسلوكهم بل ويحدد نوع السلوكيات المقبولة والتي يجب الابتعاد عنها، الى جانب ذلك فهو يفرض نوع من اللباس.

 لم يعد الجسد حكرا على البيولوجيا لوحدها، بل هو بناء اجتماعي وثقافي تتجلى فيه شتى مظاهر التفاعل الإنساني ونوع من الأدوار التي على كل جنس القيام بها. فالجسد بهذا التعبير هو اجتماعي محض، كلنا نولد على هيأة ما معينة نشترك فيها مع بعضنا البعض، لكن المجتمع وثقافته هي التي تحولنا الى ما نحن عليه ومن خلال ذلك نختلف فيما بيننا اختلاف المجتمعات التي ننتمي اليها.

 حرية الجسد والنوع، الوصايا على المرأة

1.     حرية الجسد في الفضاء العام.

   من بين المواضيع اكثر جدلا هي تلك المواضيع المتعلقة بالحريات الشخصية والمرأة بالمجتمع ولا سيما في المجتمعات المحافظة، وبين الرفض والقبول برزت عدة تيارات وعدة نقاشات في الساحة  الفكرية بخصوص موضوع حرية الجسد.

ولا شك ان لكل فضاء آدابه ومعاييره وقانونه سواء فيما يخص نوع اللباس او نوع السلوكيات المقبولة، فالحرية الشخصية بالمطلق هي فوضى، فالجسد في الإسلام كيان مقدس، لذلك كانت قوانين الزينة صارمة ناهيك أن الوشم في الإسلام محرم ومتعاطيه ملعون لأن "الوشم صورة تنطبع على الجسد وتغير مظهره من جهة وتستعيد فيه ممارسة مطرية تنتمي للتصوير الوثني في متعالياته الأنيمية"[14]، فالجسد في المعتقد الإسلامي يعتبر امانة يجب المحافظة عليه وعدم الحاق به أي نوع من الأذى، او أي نوع من التعديل لأنه يخض لمعايير دينية محضة، بهذا المعنى فجسدك ليس لك وانما هو امانة في يدك لا غير.

والفكرة ذاتها نجدها بالمجتمع الأوروبي فرغم ان الرجل الغربي الذي يصف نفسه بالديمقراطي والحداثي، هناك دائما فكرة ان المرأة خير لها ان تمكث في المنزل وأن جسدها، مادام لا ينتمي الى رجل آخر، فهو متاح للجميع ، لحماية هؤلاء النساء من هؤلاء الرجال، من الأفضل اخبارهن بعدم الخروج.[15] ، بهذا التعبير فإن المرأة لكي لا تتعرض للتحرش او المضايقات من طرف الرجال عليها ان تمكث بالبيت، كما ان الدراسات التي قام بها بيير بورديو توصلت الى  ان المجال العام يهيمن عليه الذكور وان المرأة تخضع لهذا الأخير.

بهذا المنطق فالمرأة لا تشارك في المجال العام وانما لها حرية التصرف فقط في مجالها الخاص المتمثل في المنزل، وهذا ما ذهبت اليه فاطمة المرنسي في كتابها المعنون ب "ما وراء الحجاب"، فعبرت من خلال طرحها هذا ان المرأة لا تملك جسدها او بصيغة أخرى هو جسد يملكه الزوج، وعليها ان تحافظ عليه بداية من الأعوام الأولى من حياتها الى ما بعد ذلك، وعلى ذلك فعليها ان تقوم بإخفاء جسمها في الفضاء العام عن طريق الحجاب، لأن جسدها هو ملك لزوجها.

هذه الأفكار والنتائج التي تم توصل اليها من طرف المفكرين السابقين هي نتائج اقل ما يمكن القول عليها انه  تم تجاوزها، لأنها تعبر عن سياق معين وفترة زمنية محددة، ومع تطور الحياة اصبح هذه الأحكام لا تمثل المجتمع الآن، لكن يمكن ان نجدها في بعض المجتمعات المحافظة والإسلامية بالخصوص.

مما لا شك فيه ان ظهور وسائل التكنولوجية الحديثة –التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، أحدثت طفرة نوعية في المجتمع المغربي، مما احدث تغيرات عدة على مستوى بنية المجتمع، كاللباس والعلاقات الاجتماعية والمعايير التي تؤطر المجال العام، فالمرأة حاليا بإمكانها ان تشارك الرجل نفس الفضاءات العامة (المقاهي، المطاعم، نوادي، حدائق...) دون أي مشكل من جهة، ومن جهة اخرى بالرغم من وجود هذه التغيرات فالمجال العام ما زال يفرض بعض المعايير والقوانين، لهذا ففكرة حرية الجسد وحرية التصرف في الجسد ما زال العديد من المجتمعات ترفضها وتحاربها، لأنها حسبهم هي فوضى وخروج عن طبيعة الانسان.

2.     وصاية المرأة وسلطة المرأة على المرأة

   كما أشرنا سابقا فإن المرأة في كثيرا من المجتمعات كانت تخضع للرجل وتابعة له، لكن في هذا المحور سوف نتحدث عن وصاية المرأة للمرأة وسلطة المرأة على المرأة.

ان مجتمع الرجال يسلب النساء حقوقهن ومكانتهن الاجتماعية ويلقي بهن الى الصفوف الخلفية فهن خاضعات اقتصاديا للرجل وللعائلة وللاقتصاد المنزلي بفعل النمط الاقتصادي والاجتماعي القائم البطريركي العشائري او الرأسمالي وتجلياته الفكرية والأيديولوجية . حيث يؤدلج وعي المرأة بالتقليد والموروث الديني والاجتماعي (العرفي ) وبكوابح العيب والمحرمات وفرض الشعور بالنقص وهو يعيد دائما وفي كل عصر- رغم التنوير والتقدم العلمي والحضاري- اعادة انتاج وصياغة الوعي الاجتماعي للنساء وللرجال ايضا ليتلاءم مع تقاليد الخضوع والطاعة والخوف .[16]

ومن خلال تتبعنا لأفكار الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي وخاصة في كتابها المعنون ب"ما وراء الحجاب –الجنس كهندسة اجتماعية" في الفصل السابع الذي يندرج تحت اسم الحماة، تتطرق الباحثة  فيه الى اظهار العلاقة التي تجمع ما بين الحماة وزوجة ابنها من خلال اعتماد على مجموعة من المقابلات، وتوصلت الى ان العلاقة بينهما تأخذ اكثر من منحى وشكل، أحيانا يطغى عليها نوع من الصراع والتنافس واحيانا أخرى تظهر بعض اشكال التعاون والتضامن بينهما، لكن الشكل الأول هو أوسع نطاقا، بحيث تخضع زوجة الابن الى سلطة ام زوجها، لاعتبار هذه الأخير  هي صاحبة النفوذ والسلطة داخل المنزل وفي كثير من الأحيان يخضع الابن الى صاحبة السلطة نفسها. وتفرض "المدونة" خضوع الكنة لحماتها وتفرض عليها احترام أم الزوج وأبيه وأهله المقربين (الفصل 36) ونظرا لأن البيت المغربي يخلو من الذكور في أغلب ساعات النهار فإن الحماة تظل الشخصية الوحيدة التي تعايشها الزوجة يوميا، وعادة ما يتخذ خضوع الكنة لحماتها مظهرين هما تقبيل يدها وتلقيبها ب"لا لا".[17]

 تحليل مضمون فيديوهات احتجاجات حركة "مالي"

من خلال مشاهدتنا لفيديوهات حركة مالي عبر عدة منصات رقمية قمنا من خلالها بدارسة هذه الاحتجاجات  اعتمادا على تقنية تحليل بالمضمون، بيد أن الظاهرة التي سوف ندرسها هي ظاهرة تم رصدها عبر كاميرات الهواتف وتم نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، ولهذا فتقنية تحليل بالمضمون او منهج تحليل بالمضمون هو الكفيل بتحليل هذه الظاهرة ومعرفة خباياها انطلاقا من الوقوف على مختلف الجوانب من قبيل: المكان، الزمن، السياق، الموضوع...

1.     مكان وزمن الاحتجاجات:

بتاريخ 12/10/2013 عرفت شوارع مدينة الرباط احتجاجات سابقة عن نوعها، شهدتها اول مرة هذه الشوارع، حيث كان مألوفا الشكل العادي من الاحتجاجات سواء الاحتجاج بالخطاب او الاحتجاج الذي نعرفه أي عن طريق الحشد ورفع لافتات وهتافات معينة، اما الاحتجاجات التي نحن بصدد دراستها هي من نوع آخر هي احتجاجات جسدية بامتياز تم فيه الاعتماد على سلوكات وافعال هي اقل ما يمكن القول عليها دخيلة على المجتمع المغربي، وهذا ما شكل صدمة قوية في نفوس الحاضرين من المحافظين، والتي انتهت بتدخلهم من اجل تفريق هذه الاحتجاجات، وقد كان تدخلهم سابق لتدخل السلطات المحلية مما يفسر عدم قبول المجتمع المغربي لمثل هذه الاحتجاجات، وسوف نعود للحديث عن هذه الاحتجاجات في المحور التالي بالتفصيل.

2.    سياق الاحتجاجات

نظمت هذه الاحتجاجات من أجل الدفاع عن حرية الجسد وحرية المرأة وقد تم استعمال فيها مصطلحات من قبيل: عاش الحب، حرية الجسد، حرية المرأة وغيرها، وقد تم تنظيم هذه الاحتجاجات من قبيل حركة سميت نفسها ب"مالي" وبتعبير آخر الحركة البديلة من أجل الحريات الفردية.

للإشارة، فـ"الحركة البديلة للدفاع عن الحريات الفردية" في المغرب (مالي)، هي حركة عالمية نسوية علمانية أنشئت لأول مرة في المغرب في عام 2009، كمجموعة على الشبكة الاجتماعية "فيسبوك"، للكفاح من أجل الحريات الفردية في المملكة.

3.     موضوع الاحتجاجات

كما تم الإشارة اليه فالاحتجاجات جاءت كرد فعل على القانون المغربي الذي يجرم العلاقات خارج اطار الزواج ويعتبرها جريمة وفساد، وقد علون الفيديو الذي قمنا بدارسته والذي يمتد الى ست دقائق ب"وقفة البوسان بالرباط" لكون ان هذا الفيديو هو عبارة عن تبادل للقبلات بين شاب وشابة في الشارع العام ووسط حشود من الناس، في تعبير الى ان الفرد هو مسؤول عن ذاته وعن جسمه وله كامل الحرية في القيام فيه بأي شيء.

ويجدر الإشارة الى ان الشابين الذين قدما على هذا السلوك الدخيل نوعا ما على المجتمع المغربي ينتميان الى حركة مالي ومن بين أهم مكونين لهذا التنظيم وهذه الحركة، هذه الأخيرة التي من بين أهدافها ما يلي:

·      حقوق المرأة

·      المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث

·      الحرية الجنسية

·      الحريات الفردية

·      الدفاع عن المثليين والمتحولين الجنسيين....

ان المجتمع المغربي بالرغم من انه مجتمع منفتح الى انه ما زال يحافظ عن بعض خصوصيات ثقافته التقليدية، الشيء الذي يفسر بروز جدالات بين فئة ترفض الأهداف السابقة وفئة تطالب بها، وقد يصل هذا الجدال الى تجسده في الواقع عبر تدخل بعض المعارضين لمثل هذه التوجهات، كما جاء في الفيديو الذي قمنا بتحليله، حيث تدخل شاب في عقده الثالث، رافضا بذلك شكل الاحتجاج بالتقبيل، حيث عبر من خلال كلماته والعبارات التي تفوه بهم، عن رفضه التام لهذه الأفعال الشاذة (في نظره)، وجاء على لسانه من غير السب والشتم، عبارة مفادها: "هاذ بلاد إسلامية.."، الشيء الذي عبر فيه على ان هذا المجال يرفض تماما مثل هذه الأفعال بدافع ديني أخلاقي...



[1] . شيخة عبد المنعم، الثورة في الفلسفة، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2019، ص4.

[2] . أميمة صبحي، حطاب الاحتجاج في الشعارات الثورية مقاربة تداولية، مجلة  كلية الآداب للغويات والثقافات المقارنة، مج12، عدد11، يوليو، 2020، ص553.

[3] . المرجع السابق.

[4] . بيار بونت وميشال ايزار، معجم الأثنولوجية والأنتربولوجية، ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع، لبنان، ط2، 2011، ص435.

[5] . W, Pasini et A, Andreoli: Le Corps en psychothérapie, op. Cite

[6] . مقدمة عن جسم الانسان، حسب Alexandra Villa-Forte , MD, MPH, Cleveland Clinic

[7] . أحمد عبد الحليم عطية، فلسفة الجسد، تأليف سمية بيدوح، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، ص13.

[8] . Caune. J. (2014), le corps, objet de discours, moyen de relations. CNRS Editions, « Hermes, La Revues », /n°68, pages : 53.https://www.cairn.info/revue-hermes-la revue -page-53.htm

[9] . جينيدي عبد الرحمان، سوسيولوجيا الجسد والحجاب، جامعة غرادية، الجزائر، ص155.

[10] . Marcel Mauss. Techniques Of Body. Economy and Society 2-p 70.  

[11] sylvèneKitabgi& Isabelle Hanifi (2003), la sociologie et le corps: Généalogie d’un champ d’analyse, In «Le corps sens dessus dessous: Regards des sciences sociales sur le corps, sous la direction de Laure Ciosi-Houcke & Magali Pierre, Ed: L’Harmattan. PP. 13-67

[12] . جيندي عبد الرحمان، المرجع السابق، ص157.

[13] Douglas. m. Natural Symbols. Explorations in Cosmology. The Cresset Press. London.1970. P.71..

[14] . فاطمة الزهراء أزرويل، البغاء أو الجسد المستباح، افريقيا الشرق، الغرب، 2001، 42.

[15] . أسامة البحري، سوسيولوجيا الجسد العربي، أسرد للنشر الألكتروني، ص5.

[16] . عواد احمد صالح، المرأة بين سلطة الرجل ونار المجتمع، منصة حوار، https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=59050

[17] . فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك، ط4، 2005، الدار البيضاء، المغرب، ص137.

تعليقات